فصل: 4 - نظم القرآن وفواصله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.4 - نظم القرآن وفواصله:

119 - تكلمنا في ماضي قولنا في وصف عام لبلاغة القرآن، وتكلمنا في ألفاظه، وبيَّنَّا بشواهد الآيات أن كلَّ كلمة لها صورة بيانية في السياق الذي سيقت له، ثم تكلمنا عن الأسلوب، وذكرنا مستشهدين بالآيات البينات أنَّ كل كلمة لقف مع أختها، ويتكوّن من مجموع الكلمات المتلائمة المتآخية صورة كاملة للبيان تعطيك صورة بيانية، كل كلمة تعطيك جزءًا منها، مع كونها في ذاتها صورة بيانية وحدها، وضربنا لك الأمثال.
ثم تكلمهنا من بعد على تصريف البيان القرآني، فبيَّنَّا كيف كان التصرف في الاستدلال على وحدانية الديان، وبطلان عبادة الأوثان، وكيف كان التنويع في البراهين التي يسوقها، والتي تعلو في دقة الحكم على الأدلة الخطابية، وتعلو في النسق البياني والنغم الموسيقي عن البرهان المنطقي، مع اشتمالها على أدق معناه، وإن غاير الأشكال.
وذكرنا الاستدلال على الوحدانية في سياق القصص والعبرة، ثم بيَّنَّا من بعد ذلك تصريف القول بطريق القصص، والتصوير القصصي للوقائع، حتى كأنك ترى المشاهد؛ لأنك تقرأ القصص.
ثم تكلمنا في الاستفهام القرآني، وخضنا في التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية والإشارة البيانية لمن يغوص في علوم القرآن الكريم، ويتعرَّف أسرار الحقائق التي اشتمل عليها، سواء أكانت حقائق كونية أو نفسية، أم كانت تتعلق بنواميس الاجتماع وتربية المجتمعات.
ذكرنا ذلك في إجمالٍ يشير ولا يحيط، ويوجز ولا يفصل.
ولكن مع ذلك نرى للقرآن صورة هي في الإعجاز أبعد مما سبق، ذلك أنك إذا قرأت القرآن مرتلًا، أو كاشفًا بالصوت مع الترتيل تحسّ بأنه ليس من الكلام الذي سمعته وتسمعه وتقرؤه، وأنك تميّز بذوقك القرآن عند سماعه من غيره، فله نظم يعلو عن كلام البشر، وله نغم أعلى من أن تسميه موسيقى، يذوقه كل فاهم، وإن كان لا يستطيع وصفه ولا تعريفه، ولا بيان سره، كما يذوق الذائق طعامًا طيبًا، ولا يعرف اسمه ولا أرضه ولا سر طيبه، ولكنه يحكم بطيبه وإن كان تفصيل السبب لا يعرف.
وليس ما نقوله هو من قبيل ما فنَّدناه من قبل، وهو ما سمِّي بالصرفة، فإن الصرفة على قول الذين يزعمونها: عجز عن المحكاة أو المشابهة بصرف الله تعالى. إنما الذي نقوله هو أنَّ الإعجاز من خصائص القرآن البيانية وغيرها، وإن كانت البيانية أظهرها، وهي التي يتحدى الله تعالى بها العرب أن يأتوا بمثلها ولو مفتريات، فالنظم والنغم والفواصل وما يشبه الموسيقى، وإن كان أعلى أوصاف ذاتية، ولعلنا نتنزل بالقرآن إن سمينا ما نذكر موسيقى، فروعة القرآن أعلى، وذلك سبب من أسباب العجز، وهو غير الصرفة.
لقد وجدنا للقرآن حلاوة في الألفاظ والأسلوب والفواصل، وغير الفواصل، ليست في غيره، وهذا ما سيمناه النظم تقريبًا للفهم، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى، وهو ما وصفه الوليد بن المغيرة بقوله:
(إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر).
120 - وبعد هذه التقدمة التي نمهِّد بها للقول، نقول: إن نظم القرآن ليس من أي نوع من أنواع من النظم الذي عند أهل البيان، فليس نثرًا مرسلًا، وليس نثرًا مصنوعًا، وليس نثرًا فيه ازدواج، كما أنه ليس نثرًا مسجوعًا، وليس فيه فواصل تشبه السجع، ولكنه شيء غير هذا، وغير ذلك.
ويقول الباقلاني في كتابه (إعجاز القرآن) عن بديع نظمه: إنه بديع النظم عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحدِّ الذي يعلم عجز الخلق عنه والذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة، ونحن نفصِّل ذلك بعض التفصيل، ونكشف الجملة التي أطلقوها، ثم يتكَّلم عن الإعجاز في النظم فيقول:
فالذي يشتمل عليه بديع نظمه وجوه:
منها ما يرجع إلى الجملة، وذلك أنَّ نظم القرآن على تصرف وجوهه، وتباين مذاهبه، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به، ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد، وذلك أنَّ الطرق التي يتقيّد بها الكلام البديع المنظوم تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفَّى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالًا، فنطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع، وترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلًا في وزنه، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل فيه، ولا يتصنَّع له، وقد علمنا أنَّ القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق، ويبقى علينا أن نبيِّن أنه ليس من باب السجع، ولا فيه شيء منه، وكذلك ليس من قبيل الشعر؛ لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجّع، ومنهم من يدَّعي أن فيه شعرًا كثيرًا، والكلام عليهم يذكر بعد هذا الوضع.
فهذا إذا تأمّله المتأمل تبيّن له بخروجه عن أصناف كلامهم وأساليب خطابهم أنه خارج عن العادة وأنه معجز، وهذه خصوصيات ترجع إلى القرآن وتميز حاصل في جميعه.
وإنَّ الباقلاني لا يكتفي بذكر ما بيّن أنَّ القرآن ليس على الصفة التي امتاز بها بليغ الكلام عند العرب، بل هو أعلى من ذلك، يأتي بأبلغ الشعر وأبينه، وأجود الخطب وأوقعها، ثم يأتي بأكمل الكتب، ولا يكتفي بذكر كلام البلغاء، بل بكلام صاحب جوامع الكلم وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقرّر أنه وإن كان فوق أيِّ كلام للبشر، دون كتاب الله المعجز بكل ما اشتمل عليه، وبكل ما فيه من لفظ ونغم وأسلوب.
ويذكر رضي الله عنه وجهًا آخر من وجوه الإعجاز في نظم القرآن وأسلوبه، فيقول:
ومنها أنه ليس للعرب كلام يشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا الطول وعلى هذا القدر، وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات محدودة، وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة - قليلة أو كثيرة، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من اختلال، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف، ويشملها ما نبديه من التعمل والتكلُّف والتجوّز والتعسُّف، وقد كان القرآن على طوله متناسبًا في الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به، فقال - عز من قائل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]، وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فأخبر سبحانه أن كلام الآدمي إن امتدَّ وقع التفاوت، وبان الاختلال.
وهذا المعنى هو غير المعنى الأوّل الذي بدأنا ذكره، فتأمَّل تعرف الفضل.
وفي ذلك معنى ثالث، وهو أنَّ عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف فيها من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف وتعليم، وأخلاق كريمة وشيم رفيعة، وسير مأثورة، و غير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها، وتجد كلام البليغ الكامل، والشاعر المفلق، والخطيب المصقع، يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور.
ثم يقول رضي الله عنه: وقد تأمَّلنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد واحد في حسن النظم، وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت فيه، ولا انحطاط عن المنزلة العليا، ولا إسفاف فيه إلى المرتبة الدنيا، وكذلك قد تأملنا ما تنصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف، وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتًا بينًا، ويختلف اختلافًا كبيرًا، ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت، بل هو نهاية البلاغة، وغاية البراعة، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه.
ويذكر الباقلاني أن من دلائل الإعجاز تفاوت كلام البلغاء في الوصل والفصل والانتقال من معنى إلى غيره، وتقريب المعاني وتبعيدها، وأن القرآن ليس فيه ذلك النقص الذي يعرو كلام البشر، ويختلف قوة وضعفًا في ضم المعاني وتفريقها، والقرآن فيذلك النمط المتسق الذي لا يجارى.
121 - هذه أمور تقريبية تقرِّب معنى الإعجاز ولا تحدُّه، وتذكر بعض الأسباب ولا تنقصاها، إنه ككل الأمور التي نحسّ بها ولا نستطيع تعرف دقائق أسراراها، فهو كتاب الله الذي يعلم السرّ وأخفى، ولكنَّا نقر بالعجز عن الإتيان بمثله لأننا ندرك علوه، ولا نعرف الأسباب التي علت به، وليس هذا من الصرفة كما ذكرنا، إنما الصرفة أن نعرف قدره وقدرتنا على مثله، ولكن ننصرف عن ذلك.
وإنَّ القرآن ليس من قبيل ما اصطلح عليه الناس في علوم البلاغة، فليس نثرًا مرسلًا كما ذكرنا؛ لأنَّ النثر المرسل ليس له نغم مؤتلف، وهو في قدرة كل إنسان بليغ، وقد تلونا عليك بعض الآيات في الأحكام الشرعية، فرأينا ائتلافًا في النغم، وروعة في البيان، لا تجعلانها كلامًا مرسلًا كسائر الكلام، فإنك واجد التآخي بين الألفاظ والتناسق في الأسلوب، والمعاني التي تتداعى ويأخذ بعضها بحجز بعض، وكل كلمة تومئ إلى أختها.
ولنضرب مثلًا من الكلام الذي ليس فيه ما يشبه السجع ولا القافية ولا الازدواج ولا الشعر، اقرأ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 95 - 98].
إنك واجد في كل كلمة مع أختها إشراقًا، وصورًا بيانية، لقد ذكر سبحانه كيف يخلق الحب فيكون زرعًا، إذا أتى حصاده أكل منه الإنسان والحيوان، وازيّنت به الأرض، وأتت من كل زوج، وغير ذلك من الصور والأحياء، ثم التعبير بفالق النوى، وكيف يخرج من النوى الدوحة الباسقة الوارفة الظلال، والأشجار الدانية القطوف، واليانعة الثمار، ثم كيف يعطر الوجود بالرياحين والزهور من هذه النواة اليابسة، وكيف يخرِج سبحانه وتعالى - من التراب أحياء، ومن الحب الجامد والنواة الصلبة غصونًا حية، وزروعًا رطبة، وكيف تدور الحياة إلى موت، فيخرج الميت من الحي وإن ذلك مرئيّ، وإنما ينبت الزرع ويخضرّ، ويستوي على سوقه بعد أن يخرج شطأه، ثم يصير حطامًا.
ثم بَيِّنَ سبحانه أنَّ الذي فعل ذلك هو سبحانه في إشارات بيانية فيها استعلاء، وفيها توجيه بأبلغ ما يكون التوجيه، ثم كان الختام باستفهام إنكاري وتعجب؛ لأنَّ الأمر يستدعي التعجب في ذاته، ثم ختم الكلام بختام فيه رنات قوية لائمة في معناها، ومنبهة للعقول في نغمها وفي موسيقاها، ثم جاء بعد البيان عن الأرض وما فيها من زرع وضرع، وباسقات - إلى السماء، وما فيها من بروج وأفلاك ونجوم وشمس وقمر، وما يصدر عنها من نور وضياء، وكان الانتقال من الأرض إلى السماء بتقريب في الألفاظ والمعاني، فعبَّر سبحانه عن خروج النهار من الليل بالفجر الصادق الذي يشق الظلام، فقال سبحانه: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ}، وفي ذلك مقاربة في التعبير بين فلق الحجب والنوى، وشق النور في الظلام، ثم جعل من بعد ذلك نتيجة لهذا الإصباح أنَّ كان الليل سكنًا، ووجه الأنظار إلى الشمس والقمر، فجعلهما سبيلًا لحسبان الأيام والليالي والشهور، ثم ختم النصَّ بما يفيد أنَّ ذلك كله من حكمة الله تعالى العلي القدير، وهنا نجد المعنى واللفظ يختمان بختام من القول يدل على انتهاء هذا الجزء، ومثله في ذلك - ولكلام الله تعالى المثل الأعلى - كمثل من يصور أجزاء كل جزء منه ناطق وحده متميز بوجوده مع الاتصال الوثيق بما يليه، وقد كانا على مقربة بعضهما من بعض في نسق بياني، لا هو من السجع، ولا من الإرسال ولا الشعر، ولكنه فوق ذلك، وفيه مزايا كل واحد من هذه الأقسام مع الزيادة التي تجعل الكلام لا يطاول بيانًا.
وقد ذكر من بعد ذلك زينة السماء إذ قد زينت بالنجوم كالمصابيح للأرض يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، وفي ذلك إشارة واضحة إلى بيان نعم الله تعالى في اليابس والماء، ففي الأرض زروع وثمار وحيوان قد سُخِّرَت لبني الإنسان، ومن البحر تستخرج حلية، وتأكل منه لحمًا طريًا، وفي السماء يهتدي بالنجوم في دجنة الليل، ويسير في البحر بالجوار المنشئات كأنها الأعلام.
وختمت الآية الكريمة بما يدل على أن إدراك هذه النعم يحتاج إلى علم وإيمان بالحق، ولا حياة لعلم بغير إيمان بالحق، ولا حياة لإيمان من غير علم، فهما متلازمان.
ثم بين سبحانه خلق الإنسان وهو كونٌ قائم بذاته في إدراكه ببصر وبصيرة، وفي أصل نشأته ما يساوي أصل الوجود كله، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 21، 22].
وإن الله ختم الآية الكريمة بما يناسب خلق الإنسان الدقيق الذي لا يدركه إلا نافذ البصيرة، فقال سبحانه: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} فالفقه هو العلم الدقيق العميق الذي يشق الظلام حتى يصل إلى الحقيقة.
وإننا نجد من هذا أن القرآن لا يمكن أن يوصف بأنه نثر، ولا بأنه مزدوج له فواصل، ولا بأنه سجع له قواف، ولا بأنه شعر، فليس له أوزان ولا قواف، بل هو ذو نظم اختص به من كل الكلام.
ولو حاولنا أن نعرف سرَّ ذلك النغم وتلك الموسيقى، وذلك التآخي لعجزنا أن نعرفه على وجه التحقيق، إنما نعرف تأثيره في نفوسنا إذا تهدَّت ووصلت إلى ذوق الأسلوب، وذلك أمر يدرك لذوي الألباب، ولا يعرف سره.
وإن النظم القرآني في تأليفه كله له رنين الموسيقى، لقد جرى العرب كتابًا وشعراء وخطباء على أن يجدوا النغم في فاصلة سجع أو قافية شعر، لكن نظم القرآن ونغمه ينبعث من كلماته وحروفه وأسلوبه، فحروفه متآخية في كلماته، لها موسيقى ونغم تهتز لها المشاعر، وتسكن عندها، وتطمئن النفوس، والكلمات في تآخيها في العبارات تنتج موسيقى ونغمًا يختص به القرآن وحده، وإنّ أيَّ كلام مهما يكن علو صاحبه في البيان لا بُدّ أن يكون متخلفًا عن القرآن، لا يمكن أن يلحق به؛ لأنَّه كلام الله تعالى وفوق طاقة البشر.
ويعجبني ما كتبه في هذا الكاتب المؤمن مصطفى صادق الرافعي إذ يقول: كان العرب يترسَّلون في منطقهم كما اتفق لهم، لا يراعون أكثر من تكييف الصوت دون تكييف الحروف التي هي مادة الصوت إلى أن يتَّفق من هذا قطع في كلامهم تفي بطبيعة الغرض الذي تكون فيه، أو بما تعمل لها المتكلم على نمط من النظم الموسيقى إن لم يكن في الغاية، ففيه قرب من هذه الغاية.
فلما قرئ عليهم القرآن رأوا حروفه في كلماته، وكلماته في جمله ألحانًا لغوية رائعة، كأنَّها لائتلافها وتناسبها قطعة احدة، قراءتها هي توقيعها، فلم يفتهم هذا المعنى، وأنه أمر لا قِبَل لهم به، وكان ذلك أبين في عجزهم، حتى إنَّ من عارضه منهم كمسيلمة جنح في خرافاته إلى ما حسبه نظمًا موسيقيًّا، وطوى عمَّا وراء ذلك من التصرُّف في اللغة وأساليبها ومحاسنها ودقائق التركيب البياني، كأنما فطن إلى أن الصدمة الأولى للنفس العربية إنما هي في أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عداها، وليس يتفق ذلك في شيء من كلام العرب إلَّا أن يكون وزنًا من الشعر أو السجع.